03 يوليو 2009

حوار - القدس العربي

حوار مع الشاعر الاردني عمر ابو الهيجاء
كتبه يحيى القيسي
ونشر في جريدة القدس العربي بتاريخ 27/8/2008

المبدع الحقيقي لسان المتعبين في الأرض والمعبر عن آمال أمته

يعد الشاعر الأردني عمر أبو الهيجاء واحدا من التجارب الأردنية التي بدأت في الثمانينات وترسخت في التسعينيات ضمن خصوصية واضحة،فقد اشتغل على قصيدته بدأب كبير، وأخلص لنصه الشعري ،وتواصل عطاؤه في إصدار الدواوين ،وأولها خيول الدم 1989 ، ثم أصابع التراب 1992 ، معاقل الضوء 1995، اقل مما أقول 1997، قنص متواصل 2000، يدك المعنى ويداي السؤال 2001 ، شجر اصطفاه الطير 2004 ،وأخيرا أصدر مختارات شعرية من دواوينه السابقة جمعها في كتاب واحد اسماه أمشي ويتبعني الكلام وهو من منشورات أمانة عمان الكبرى.

عمل أبو الهيجاء في رابطة الكتاب الأردنيين سكرتيرا إداريا لست سنوات،ثم انتقل للعمل الصحافي الثقافي ، وهو اليوم في جريدة الدستور الأردنية محررا وكاتبا، عضو رابطة الكتاب ونقابة الصحفيين الأردنيين،و هو مشارك نشط في المهرجانات الشعرية والأمسيات. يقول الناقد والشاعر د. راشد عيسى عن مختارات ابو الهيجاء نصوص عمر تخلو من الخطابية والمباشرة، وتصعد نحو التجريد بصفته أليق الأساليب المخيالية لقصيدة النثر،وهو تجريد لصيق بالمعمار السوريالي الذي تصبح فيه اللغة نظاما رمزيا وإرشاديا مستندا إلى الانزياح الدلالي اللغوي .

هنا حوار حول تجربته الشعرية والصحفية والتقاطعات ما بينهما:
* ما الذي ترى انك أنجزته من المغايرة والجدة في مجال الشعر منذ خيول الدم إلى ديوانك السابع شجر اصطفاه الطير على اللغة والأسلوب مقارنة بالمشهد الشعري المحلي والعربي من حولك؟

- منذ صدور أول عمل شعري لي خيول الدم وقصائد هذه المجموعة معظمها كتب بعد منتصف السعبينيات وكما تعلم هذه المرحلة وما بعدها إلى أواخر الثمانينيات كانت مضطربة سادتها حروب وانتفاضات كثيرة في فلسطين وحرب بيروت، كل ذلك كان له وخز كبير في داخلي المسكون بالوجع، فأنا من جيل الانكسارات والهزائم من 67 إلى 73 إلى 82 وصولا لحرب الخليج الأولي والثانية وسقوط بغداد أندلس العرب الثانية، فكانت خيول دمي تركض على مساحة الجرح في الجسد المتشظي.

القصيدة أخذت تقودني إلى جوانية الهم الإنساني المعيشي، إلى التفاصيل الدقيقة في خارطة الألم والتشرد والنفيّ والرحيل وصولا إلى هضبات الحلم الأسمى الوطن، جسدي أصبح متعدد الثقوب، ثقوب الزمن والصواريخ التي اخترقت ألواح الزينكو والبيوت الطينية في المخيمات حين كانت تطلقها إسرائيل ليلا على اربد شمال الأردن، كل هذه المشهديّات العصيبة لها وقعها على مخيلتي منذ كنت طفلا، حملتني وحملتها في صندوق رأسي الطافح بذاكرة الموت ورائحة الدم.

خيول الدم اطل بمجموعة من القصائد أشبه بالقنابل الموقوتة، راسمة توجعات الإنسان المنفي على أطراف الأرض، قصائد تقرأ الدم المتناثر في الطرقات، تقرأ لوحة الشهداء وأطفال الحجارة وتقرأ تهاليل أمي في وداع الفرح على شفاه الطفولة المخنوقة بدخان الدبابات وبساطير الفاشست.

بعد ذلك أصدرت مجموعتي الشعرية أصابع التراب التي جاءت مكملة للمجموعة الأولى، هاتان المجموعتان كانت اللغة والأسلوب والتقنية اقرب إلى الحدث فيهما، لغة مبسطة وشفافة غير أنها بعيدة كل البعد عن المباشرة أو التقريرية، ثم توالت إصداراتي الشعرية، حاولت في كل مجموعة أن لا أكرر نفسي وأقدم ما هو جديد على صعيد القصيدة وكل مجموعة كانت تختلف عن الأخرى سواء على صعيد اللغة او الشكل او المضمون برؤى مغايرة والبحث تشكيلات اللغة وتراكيبها والعلاقات فيما بينها من الدلالة والمعنى، اعتقد أنني استطعت أن أجد لي مكانا على خارطة الشعر محليا وعربيا وصوتا خاصا يميزني عن غيري من الشعراء.

لقد بدأت مع قصيدة التفعيلة ثم انطلقت إلى فضاء آخر للقصيدة ،فضاء أكثر اتساعا للتحليق ليس عجزا مني في متابعة قصيدة التفعيلة المموسقة وإنما البحث في المزج ما بين الشعر والنثر وصولا لنص كوني لا يخلو من شعرية عالية من حيث تكثيف اللغة وإيجاد إيقاع يتماشى مع عجلة الحياة، وأرى أن الشعر ليس فقط الوزن وإن كان هو من أهم عناصر القصيدة، فإلى جانب الوزن هناك عناصر مهمة كثير من الشعراء يهملها مثل الانزياح والتكثيف والبناء والتراكيب الجديد بين المفردات والدهشة والمفارقة وغير ذلك، إذا القصيدة إن تخلت عن هذه العناصر واعتمدت فقط على الوزن أعتقد تكون قد أصيبت بالغيبوبة والموات لأنها فقدت روح الشعر، أنا هكذا أنظر إلى القصيدة، والقصيدة التي لا تستفزني ولا تهزني من الداخل أعتبرها قصيدة هزيلة ومشلولة لا تستطيع الوقوف أو مغادرة فراشها لأنها خلقت مريضة.

* لاحظت في قصائدك أنك تركز كثيرا على الجسد الجريح وأنينه وأنه يحضر كثيرا مفردات وصورا، فهل هذا الأمر يدخل في سياق التوجه الشعري والروائي للاحتفاء بالجسد وهواجسه أم هو أمر ذاتي خالص؟

- الجسد في أعمالي الشعرية يأخذ دلالات ومعان كثيرة، ويظهر جليّا في قصائدي المطوّلة فتراه جسدا ممزقا ينزّ دما سيّالا على عتبات الحياة المريضة بآلة الحرب المدمرة، ألا ترى معي أن الجسد العربي ممزق من المحيط إلى الخليج، ودائم الأنين والصراخ، فعلى الشاعر الحقيقي أن يتحسس ويمعن بهذا الجسد ليكون قريبا من أنينه وسقطاته المتتالية.

لهذا تجد تركيزي المتواصل على جسد الأمة أحاوره وأتغلغل في ثناياه، فأنا جزء من هذا الجسد الجريح الذي مرتّ سنوات جمر طوال عليه ولم يتعافى ولست الوحيد من بين الشعراء الذين أصيبوا بلعنة الجسد الجريح، فجسدي وجسدك وأجسادنا لم تزل تئن من الطعنات المسمومة بفعل انكساراتنا الداخلية والخارجية.

من ناحية أخرى هناك الجسد الذي يحتفى به كجسد الشهداء الذين يعلموننا معنى العشق.. عشق الوطن والتضحية والفداء، لم يكن احتفائي بالجسد مجانيا وإن كنت أيضا كتبت بفيض عن جسد المرأة،حاولت في قصائدي الكشف مفردات هذا الجسد ومكنوناتها لأرسمها بطريقة جمالية أخاذة تقرأ عالم المرأة الخاص، بلغة تدغدغ مشاعرها وتبحر في جوانيتها الفياضة والمشتعلة بنار الحرقة، لأن المرأة برأيي حرارة دائمة ومسبحة كل العاشقين، هذا ما أراه، إذن ليس الأمر ذاتيا وإن كان كذلك فأجمل الأشعار هي التي عبرت عن الذات وانطلقت إلى الذات الجمعية بكل تفاصيلها الإنسانية والوجودية، فمعظم الشعر في سياقاته المتعددة لا يخلو من الاحتفاء بإنسانية وكيانية هذا الجسد بكافة تفاصيله وتضاريسه وكذلك الرواية احتفت بالجسد بطرق مختلفة، فالجسد له قراءات متعددة وهو لا يحتمل قراءة واحدة، ولا يحتمل أيضا الابتذال في التعبير عنه لأنه خلق ساميا ويبقى كذلك.

* ثمة انشغال أيضا بثيمة الكتابة نفسها والشعر تحديدا، فهل أنت قلق تجاه كتابة الشعر والإنثيالات التي قد تأتي ولا تأتي؟

- القصيدة تأتي وحدها، قد تأتي وأنت في داخل الحافلة، وقد تأتي وأنت في تسير في الشارع أو في أي مكان، وقد تكون نائما فتهمس لك أنّ استيقظ ، هكذا تعيش معك وتجعلك دائم القلق، فأنا لا أقتحم قصيدتي هي التي تقتحمني فتأخذني إلى جناحيها وفضاءاتها الرحبة وتحلق بي في سماوات كثيرة.

من هنا أصدقك القول إذا قلت لك بأنني أعيش حالة قلق دائم، فأنا قلق على الحياة، قلق على الوجود.. قلق على حروفي النازفة وخيالاتي ..قلق عليّ قلق على امرأة قد تأتي أو لا تأتي.. قلق على حبري أن يجفّ وخائف على أصابعي أن تصاب بالترهل والضعف والشلل.. إنني قلق على كل شيء في هذا الكون والوجود… فقلقي حق مشروع، لكنني لست قلقا على قصيدتي إن جاءت أم لم تجيء.. لأنها حتما ستأتي، والقصيدة لا تستأذن شاعرها في الحضور إليه، فقلب الشاعر حدائق تفيض بالجمال والخضرة، المهم كل كاتب أو مبدع يعيش قلقه الذي لا ينفصل كينونة الحياة وتفاصيلها، لأن المبدع الحقيقي هو لسان حال أمته والمعبر عن تطلعاتها وأمالها وأحزانها وأفراحها.. إنه لسان المتعبين في هذه الأرض.

* كونك أحد شعراء الأطراف أو المحافظات أساسا، فهل كان لرحلتك إلى العاصمة وعملك المتواصل فيها دور في تطوير تجربتك أو إعاقتها؟

- اعتقد أن تغيير المكان لأي مبدع ضروري لأنه يكون له الأثر الكبير على نصه الإبداعي، فأنا كائن مهووس بالمكان، ورحلتي إلى عمان والعمل فيها لا أنكر بأنها افادتني كثيرا، فقد أصبحت قريبا من الحراك الثقافي والنشاطات والمهرجانات الثقافية المحلية والعربية، تعرفت إلى أصدقاء لهم قاماتهم الإبداعية، فقصيدتي أيضا أخذت بالاحتكاك بكل ما هو جميل ومبدع، أي أنها تطورت وأصبح لها حضورها محليا وعربيا وترجمت بعض قصائدي الى غير لغة، وهذا كله بفضل المتابعة والاجتهاد والاشتغال على النص دون الالتفات إلى الوراء لأنني أكتب نصي وأمضي ولا يهمني ما يقال هنا وهناك، حقيقة لقد حافظ نصي على خصوصيته وهذا ليس رأيي أنا إنه رأي الكثيرين من النقاد في الوطن العربي ، وبالمناسبة فإن القصيدة التي تستفزني أحاول أن أكتب أفضل منها ولا أقلدها أو استنسخها، والقصيدة الرديئة أيضا تستفزني لأنها رديئة.

إذن المكان له تأثيره على مسار المبدع، وأقولها بصدق التغيير الذي حدث على قصيدتي جاء خالصا من تبعيات كثيرة لأنني أنا الذي أحدث التغيير، ولعب المكان دورا لا يستهان به في التغيير ، لكن تقع مسؤولية كبرى على الشاعر والمبدع فكيف يستطيع أن يتأثر ويؤثر في المكان لينعكس ذلك على منتجه الإبداعي، لدينا شعراء في المحافظات ما زالوا يراوحون مكانهم ونصوصهم مازالت تلهث ، بمعنى لم تتطور لأنها لم تحتك بالتجارب الأخرى والبعض لم يقرأ كتابا في السنة وهذا بالطبع لا يحدث تطورا لديهم لم يطلعوا على ما هو جديد في شتى حقول المعرفة والإبداع، بمعنى مخزونهم القرائي محدود، وفي المقابل هناك شعراء من المحافظات على اتصال دائم بالعاصمة ويشاركون بالفعاليات أي ان لهم حضورهم وبالتالي انعكس ذلك على تجاربهم الإبداعية هذا الى جانب أنهم يبحثون دائما عن الجديد من شعر ورواية ومسرح وقصة الى غير ذلك ، أنت مثلا المكان أحدث نقلة نوعية في تجربتك الإبداعية بعد عودتك من تونس أنجزت عملا روائيا مهما والمكان كان بطلا مركزيا في الرواية لأنك ثقافتك اتسعت وخرجت من محليتها.

* بالمناسبة كيف تعامل النقد مع تجربتك الشعرية وهل اشتغل عليها كما ينبغي لها أم ظلمها ومر عليها مرور الكرام؟

- اعتقد أنني محظوظ جدا فمنذ صدور مجموعتي الأولى التي لاقت اهتماما نقديا لا بأس به سواء محليا أو عربيا، وتوالت الدراسات النقدية حول مجموعاتي الشعرية السبع، لكن أود أن أشير هنا إلى نقطة مهمة ألا وهي أن النقد لدينا وللأسف نقد مصالح وشللية ونقد محاباة .. نقد أسماء لا نقد نصوص، فنجد أن معظم الدراسات النقدية تكون خاضعة الى كلاشيهات جاهزة يطبقها بعض النقاد على جلّ الإبداعات سواء أكانت شعرية أم قصصية أو غير ذلك، هؤلاء النقاد الذين أعتبرهم كتبة فقط، لا يجهدون أنفسهم في القراءة.. قراءة النصوص والغوص في ثناياها، بل يعتمدون على أسماء الكتاب فهم ينقدون ويدرسون أسماء لا إبداعات،في المقابل هناك نجد نقد جاد ومتميز لا ينكر احد اسهامات بعض النقاد العرب والاردنيين امثال: إحسان عباس وفخري صالح ود. خالد الكركي وخليل الشيخ وعلي الشرع ونبيل حداد ود. ابراهيم خليل ود. راشد عيسى وعبدالله رضوان ود. محمد عبيدالله وغيرهم الكثير، وكذلك هناك أسماء عديدة في الوطن العربي لها مكانتها النقدية وإسهاماتها في شتى المحافل العربية والدولية.

المهم أن النقد في النهاية وبرأيي المتواضع لم يلحق بعد بالعملية الإبداعية ولم يواكب تطورها، علما بأن النقد إبداع على إبداع، المفروض أن يتماشى ويواكب ويلحق بالإبداع وان لا يبقى أسير مدارس وكلاشيهات جاهزة في النقد، عليه أن يقرأ الإبداعات والكتابات الجديدة بعيدا عن الأسماء والمحاباة والمصالح الشخصية ، أي بمعنى نريد نقدا نقيا معافى من كل الشبهات والترضيات.

* حدثنا عن عملك الصحفي في الجانب الثقافي وأثره على قصائدك لا سيما أن هناك مقولة يردده الكتاب بأن الصحافة مفرمة الإبداع؟

- إن مقولة أن الصحافة تقتل الابداع أو أنها كما تقول مفرمة الابداع هذا كلام مغلوط وخال عن الصحة، ولدينا العديد من الأمثلة في هذا المجال ممن عملوا في الصحافة ومارسوا الإبداع وقائمتهم تطول جدا، أعود إليك أنت المبدع والصحفي يحيي القيسي ها أنت تعمل صحافيا وما زلت تبدع وأصدرت أعمالا روائية وقصصية وغير ذلك وأنت تمارس مهنة الصحافة لم يتأثر منتجك الإبداعي، ربما يكون الأمر أكثر تعلقا بالوقت او عدم التفرغ بسبب العمل الصحفي لأنه هناك صحفي نشيط ومبدع وصحفي كسول غير مبدع فلا يجوز أن نعلق كل شيء على شماعة الصحافة ونعتبرها مقصلة المبدع.

خلال عملي بالصحافة ومنذ أكثر من عشر سنوات أصدرت أهم مجموعاتي الشعرية والتي كانت علامة مميزة في هذه التجربة وقد لمست ذلك من الكم الهائل من الدراسات النقدية، لم يكن أي تأثير سلبي للصحافة على نتاجي الأدبي، بل العكس الصحافة أمدتني بالكثير بالمعرفة والاطلاع والاحتكاك بتجارب مبدعة كثيرة، فالصحافة أيضا عمل إبداعي يتوازى مع المنتج الأدبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق