25 ديسمبر 2009

على مهلك أيها الليل: كراريس الكتابة الطافحة بايقاع المنفى




تأملات في ديوان "على مهلك أيها الليل"
كراريس الكتابة الطافحة بإيقاع المنفى*

بقلم اياد نصار*

صدر مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الديوان التاسع للشاعر عمر ابو الهيجاء "على مهلك أيها الليل" الذي جاء في 275 صفحة من القطع المتوسط. وهو تتويج لمسيرة شعرية ابداعية تمتد عبر عشرين عاماً بدأها عام 1989 بديوان "خيول الدم" الذي صدر عن دار ابن رشد في عمان. ومنذ البدء تبدو القضية الفلسطينية بكل تجلياتها وأبعادها وانكساراتها وألامها حاضرة في ديوانه كما في دواوينه الاخرى، بل تكاد تكون هي المحور الوحيد في أغلب قصائد الديوان.يشتمل الديوان على ثلاث وعشرين قصيدة تحمل الوجع الفلسطيني عبر أربعة محاور هي الذات، والفضاء الفلسطيني المسكون بعشق الارض وعذابات المنفى وصور الموت والدم والجنائز والثورة وذاكرة الشعب التي تجسدها أغانيه ومواويله وأهازيجه، والفضاء العربي الممزق الذي يحس فيه الانسان الفلسطيني بأنه وحيد في الساحة يتجرع الهزيمة وانكسار الحلم، والفضاء الانساني الارحب الذي يقوم على ابراز معاناة الانسان وحلمه في البحث عن الامن وتحقيق السعادة ومواصلة الابداع في أرض خالية من الكراهية مما ينتقل بالشعر من المحلية والخصوصية الى فضاء إنساني أوسع يتجاوب مع سعي الانسان المتعب المظلوم في كل مكان الى الحب والطمأنينة.

على صعيد الذات تبرز رغبة الشاعر التي لا تخلو من احساس بالحزن واليأس في التعبير عن رؤاه وأحلامه، ولكن الكلمات تعبت منه ، واستوطنت توابيت الكتب المركونة ، وتركت قلبه المعنّى يقاسي بحثاً عن لغة أخرى للتعبير عن كوامن نفسه، ولكن لا تفقس اللغة غير الاجابات المريضة. تستحضر القصيدة الطويلة الجميلة "تعبتُ مني" ذات البعد التاريخي "الملحمي" التي تصبح "سطراً من الملاحم على تراب راس العين" ذكريات المكان وأوجاعه، فرأس العين إشارة تاريخية الى بداية ولادة عمان كمدينة احتضنت المهاجرين والمنفيين في مستهل القرن العشرين وما تلاه. كما تسعى الى التأكيد على الاحساس بالمرارة برغم براءة الرؤية الشعرية التي تفيض بالالهام والدهشة. ويبدو الشاعر وحيداً متمسكاً بالكلمة رغم أنها تعبت ولم يتعب هو من السؤال.. متمسك بالكلمة التي تصنع الحلم والحبر الذي يصبح مثل وردة العشاق جسراً للحب والتواصل بينما ينطوي المشهد على النسيان والرتابة والرقص على جرح المنفيين:

لي سرّ اكتمالي، براءة الحرف،
لي أن اباركَ
ابتهاج البياض،
لمّا يعانق أسود حبري،
لي احتراقات رمل خطوي،
وشذاي،
ما كان لي،
أن أبقى سردي القتيل،
على مهفة الليل،
دون أن أمرر في مقام
النوى
تراتيل الناي

وتعدّ قصيدة "تعبت مني" من أهم القصائد التي يشتمل عليها الديوان والتي تتجلى فيها ملامح بناء شعري متكامل يعكس عالم ابو الهيجاء الفني واللغة ذات الانزياحات الحداثية المتواصلة التي طورها عبر تجربته الطويلة ويقدم فيها مقومات الرؤيا الشعرية التي تعكسها أعماله. تتضمن القصيدة تسع مقدمات لتسع فواصل شعرية متسلسلة مترابطة تستخدم لغة الحكاية الفلكلورية والمناجاة والأغاني الشعبية الفلسطينية الطفولية. تظل المقدمات التسع التي تلخص تجربة الشاعر وذكرياته واحتراقه ومعاناته مع الواقع والتاريخ واشتراطات اللغة في سبيل تقديم حلمه الشعري المتفرد الذي يتسامى فوق المكرور تردد عبارة أعطت القصيدة إسمها "تعبتُ مني". وتلخص هذه المقدمات وعي الشاعر بالمأساة منذ الطفولة وامتداداتها المكانية والزمانية وارتباطه بقضايا الارض والانسان والحلم.. وتنتهي بصوت منكسر كصرخة في واد، أو صيحة في البرية يتردد طويلاً في نهاية القصيدة تعبت مني.. تعبت مني...الخ

اسقاطات تاريخية
تقوم القصيدة في إطار سياقها الذاتي الفردي باسقاطات تاريخية وتوظف الرموز والأساطير في سبيل ابراز معالم المعاناة الطويلة والحنين للوطن والانتماء للارض، لتؤكد أنها ليست معاناة شاعر بقدر ما هي معاناة شعب بأكمله عبر سنوات شقاء المنافي الطويلة. ومن باب الاسقاطات التاريخية وتوظيف الرموز تستحضر القصيدة وقصائد أخرى في الديوان أسماء عمان القديمة مثل عمون وتايكي لتأكيد الحب المتأصل للمكان وعمق التجربة لهذا الانسان الضاربة أصوله في التاريخ ورمز الحنين الى فجر الحضارة وطفولة الانسان والمكان على السواء. وهنا يلجأ الشاعر الى توظيف اليد التي ترسم معالم الطريق الجديد وتمحو ذاكرة المرارة لتخرج الكلمات بيضاء، يد تفتح كوة من الامل في جسد الكلام الميت. وتبرز ثنائية عشق المكان التي تمنح الحياة والخلود واضحة ، فالارض السليبة صارت حلماً يتعلق به الشاعر ويعطي الحياة لشعره فكأنما يمنحه الخلود، وصارت عمون المكان والتاريخ العريق هي المعادل الموضوعي للذات الانسانية التي تقتات على الحب فتمنحه الحياة.

وهناك مفارقة شفافة يمكن أن نلحظها. ففي حين لا تغيب عمان كما يعشقها عن كثير من قصائد الديوان، إلا أنه يكدس مئات الصور من الاماكن التي صارت مثل محطات حزن ساكن بأعماقه ، وبدلا من أن تمنحه حبها فإنها تقدم له نساءً عطاشاً وتفاحاً قتيلا وأراجيل مخنوقة وأحذية خرساء وصور زجاج مهشم. تبرز في الديوان فكرة أساسية ترد في عدة مواضع وهي أن الشعر يمنح الخلاص والتطهر وبلوغ الحقيقة، وهنا يقدم الشاعر شعره كرقية او تعويذة للمدن بدلاً من انتظار المجهول. يبدع الديوان في إبراز دور الشاعر ليس كشاعر يحضر لنا القصائد لتنير الوجدان مثلما أحضر لنا بروميثيوس النار وحسب ، وإنما كمدافع عن الحلم يصونه من الريح بفعل موقفه الذي عبر عنه ذات لقاء بأنّ الشاعر لسان حال المتعبين.

يبني ابو الهيجاء علاقة حميمية بالمكان، ويغازل المدن والشوارع والاحياء وكل التفاصيل الدقيقة في شعره من خلال القصص التي عاشها أو سمعها أو تلك التي روتها له الامكنة وهو صغير. فاقترنت صورها بالورد وطائرات الطفولة الورقية، فيتداخل العام والخاص معاً.
ولكن تبدو الامكنة الاخرى في القصيدة خادعة مثل وهم أو فخ في اشارة لمّاحة للفضاء العربي. نعى الشاعر مكانه في صورة رمزية توحي بضياع وطنه المرمري، ثم أبحر في المنافي يكتب شعره شاهداً على الرحيل:

كلّ الامكنة فخاخٌ،

ووحدي أنعى مكاني،

ورقصي

حاضرٌ

في منازلي

المرمرية،

والشعر شاهد الرحيل،

ودمي عنواني،

"أي فتى أضاعوا"

في شجر المنافي.

يتردد في القصيدة كثيراً ضمير الانا المتكلم مما يعزز الذاتية التي ترى في موهبتها الشعرية والتزامها بالحلم الذي تعبر عنه القصائد "وأخذتني قافيتي الى مبتغاها" اكتمالاً لدور الشاعر ووفاء منه لرسالته نحو شعبه.

الفضاء الفلسطيني
يبدو الفضاء الفلسطيني واضحاً تماماً في الديوان بكل ما يتضمنه من أغاني الحزن والفرح، ومن صور الحياة الشعبية بكل تجلياتها التي تناقلتها الاجيال وصور الشهادة والعذاب والمنافي والتشرد. يوظف الشاعر أسلوب السرد لتقديم التراث الشعبي الذي يحتفي بالارض الفلسطينية من خلال حكايات الاباء والامهات، كما يوظف أغاني الزجل والمواويل والفلوكلور الشعبي والاغاني والميجنا للانتقال من الفضاء الذاتي الى الفضاء الفلسطيني:
لا أشبهني الآن،
ولست سواي،
طوّعتني القصيدة،
باركتني مراياي،
وأنا إبن خمسين كسوفا،
تمرجحن بي،
ومنفاي
هو منفاي.

أهدى الشاعر قصيدة كبرى ذات مفاصل تاريخية للراحل محمود درويش ، ففي قصيدة "الارض تنهيدتك.. لحنك الاخير"، قسم الشاعر القصيدة الى مقاطع تاريخية تتناول رحلة الالم الفلسطيني منذ النكبة وحتى رحيل درويش مرورا بالنكسة وحرب تشرين واجتياح بيروت وسقوط بغداد. ووظف دلالة الرقم في القصيدة بأسلوب رمزي فجعل في رأس كل مقطع رقما يدل على سنة الحدث في اشارة رمزية ذكية تستحضر في ذهن القاريء سلسلة من المآسي التي شكلت معالم الوعي العربي المعاصر مما ينتقل بالشعر من الفضاء الفلسطيني الى الفضاء العربي:
يا سيد الحلم/
كل شيء يستوي الآن،
في باب الرحيل،
يستوي/
في شهوة التراب،
تنام الطرقات،
في وحل القدمين،
وشاهدة المعنى،
تفاحة خبأها القلب
وانزوى
في عشب
الشتات.

حواريـة
يفتتح الديوان بحوارية معبرة بين الشهيد وغزة. وبرغم أنها حوارية تستدعي البوح والمكاشفة والاسلوب المباشر ورغم أنها كتبت مباشرة بعد الحدث، إلا أنها عمل شعري فني ناضج يحفل بالرموز والاشارات والصور الفنية في لغة شعرية عالية التوتر بعيدة عن المباشرة. وبالرغم من خصوصية تجربة الشاعر وصوته الخاص المعبر عن عالمه الفني الذاتي، إلا أن القاريء يلمس في القصيدة هذه توارداً شعرياً ، مع أسلوب درويش الشعري وخاصة في قصيدة مديح الظل العالي، ربما اقتضته طبيعة الحدث في كلا القصيدتين، حيث يقف المقاتل وحيداً في وجه أكثر من صمت وحصار ، وحيث تحين ساعة رثاء الصحراء وعتابها وكشف الحقيقة المرة:
قال الشهيد:
كانت السهول أمام وهج الدمع تغتسلُ
ودمي يحملني
لنشيد شجريٍّ في الطرقات،
وكل المنازل بدمي تكتحلُ،

قالت غزة:
وأنت تعدُ
نشيدكَ
وخطى الدربِ
وتمضي
بين يديك الكفنُ
لا تؤجل صلاتك في بوابة العشقِ.

يخيم على الديوان طيف حزن مقيم يمتد من الاندلس الى يومنا الحاضر وأجواء حلم ضائع لا نستعيده الا ببراءة الشعر، ورثاء الابطال العاديين والمدن، وحنين الى الماضي.. ماضي المكان وماضي الزمان الذاتي، مثلما يخيم عليه أجواء الغياب والرحيل. وتكثر في متن القصائد كما في عناوينها مفردات الموت والشهادة والرحيل والجنازة والتوابيت والمسلات وشواهد التراب واللحن الاخير والغربان وخزائن السواد. وتتماهى الخيوط بين القصائد الذاتية مثل سيرة بنت فاطمة التي أهداها الى أمه وبين عكازة الرحيل التي أهداها الى المناضل الراحل محمد ابو الهيجاء، وبدلا من أن تبكي الشخصيات المدن المفقودة تصبح القصائد مثل وقفة وداع المدن لابطالها المجهولين.

ليس هناك في الديوان قصيدة تحمل العنوان "على مهلك أيها الليل" إنما هي افتتاحية قصيدة "فراش الكتابة". وأهميتها أنها تعكس إدراك الشاعر أنه حمل رسالة الشعر ومعاناته ولكن الرؤية لم تر النور ولم ينبثق الفجر الموعود. فراش الكتابة تؤذن بأجواء الرحيل والاستعداد للغياب. يرى القاريء في القصيدة إنساناً منكسراً إنهار حلمه ، حتى بلغ الظلام قاع الرؤية وأطفأ سراج الشعر. ويأتي الاعتراف "أنا قتيل الهوى أنهض من خراب الى خراب". وبطبيعة الحال، فإن الليل يرد في الديوان في مواضع كثيرة بمعنى الزمن والظلم وفقدان الامل وطول المعاناة وإقامة الشقاء حى يكاد الفجر يبدو بعيداً. ولكن في قصيدة "خزائن سوداء"، يتجسد الليل في شخصية طاغية تستوطن ذاكرة كل شيء..يصير الليل عنوان الغياب المقيم، وحدّ السكين التي تمزق في الاعماق وتشق قصائدها.. يصير الليل وطناً لا ينام ولا يمنح هدوءا لعاشقي الارض الحزانى. ويأتي النداء مثقلا تارة بسخرية وتارة بحرقة من عمق الرجاء "أين تذهب الليلة يا ليل؟"

يكاد يقيم الشاعر في هذا الديوان قاموس الشعر الفلسطيني المعاصر. إذ تحتوي القصائد على أغلب مفردات الشعر الفلسطيني ورموزه وأسمائه وأفعاله التي تكرست في شعر أهم اعلامه المعاصرين المرتبطة بالمكان والانسان والفلوكلور والتاريخ والتي تعطي شكلا وجوهراً للهوية الفلسطينية. "على مهلك أيها الليل" ديوان شعري فلسطيني الروح والهوى والنكهة يستحق القراءة وإضافة متميزة للشعر العربي المعاصر وتتويج جميل لتجربة عشرين عاماً من شعر عمر ابو الهيجاء.

* العنوان مأخوذ من قصيدة حقول ماطرة
** قاص وكاتب أردني

نشرت جريدة الدستور الاردنية المقالة أعلاه في القسم الثقافي من عدد يوم الجمعة الموافق 25/12/2009 . يرجى الضغط على عنوان المقالة المنشورة للانتقال الى الصفحة الكاملة في الجريدة . يرجى الانتظار قليلا الى أن يتم تحميل الصفحة.


06 يوليو 2009

على مهلك أيها الليل


صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر

"على مهلك أيها الليل".. اشتباك شعري مع الراهن والمعيش

عمان- عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وبدعم من وزارة الثقافة صدرت مؤخرا مجموعة "على مهلك أيها الليل" للشاعر الزميل عمر أبو الهيجاء، الذي يواصل خلالها اشتغاله على قصيدته منذ منتصف السبيعنيات بدأب وجهد عميقين، وبلغة حداثية تقترب من المشهد الراهن ومتغلغلة في كوامن النفس البشرية ومحاورا الذات ومنطلقا الى الذات الجمعية، ضمن مضامنين انسانية تقرأ وتشتبك مع الهم الانساني وترسم لوحة مشهدية للحياة الغاصة بالوجع ومفضية الى الفرح المطرزة بوردة الشهادة.

وتضمنت المجموعة قصائد اشتبكت مع شجون الذات الجمعية العربية وشؤونها، متخذة من القضية الفلسطينية فضاء تحركت خلاله مضيئة جملة من المواضيع المتعلقة بها على غرار الشهادة والنضال والتوق إلى الحرية.

وجاء البناء الفني للمجموعة محتفيا بالصور الشعرية ذات المرجعية المتعلقة باليومي والمعيش ما عزز ارتباط بناء المجموعة مع مضمونها، كما اعتمدت المجموعة على التضاد كحامل دلالي من خلال اشتغالاتها على المفارقة والطباق بمختلف أنواعه ما أتاح قراءة المجموعة على أكثر من مستوى، وكذلك عمله على أسطرة الأشياء وتوظيفه للمادة التاريخية واسقاطها على الواقع ضمن فني وتقني مدهش.

ومن أجواء المجموعة نقرأ من قصيدة "قالَ الشهيدُ.. قالتْ غزةُ":

ليلُ المدنِ طاعنٌ في السوادْ

لا فضاءَ في لغةِ المسافةِ يكتملُ

هُنا عبروا الأرضَ

ذبحوا الذاهبينَ الى الشمسِ

وكلُّ المناديلِ في اكفِّ الصبايا تشتعلُ

ولم يرحلوا

وأنا خلفَ أصواتِهم أنتظرُ

كانت السهولُ أمامَ وهجِ الدمعِ تغتسلُ

ودمي يَحمِلني

لنشيدٍ شجريٍّ في الطرقاتِ

وكلُّ المنازلِ بدمي تكتحلُ

أنا ابنُ دمي

بدء الطلقات

أولُ الداخلينَ إلى الحلمِ

وحُلمي بموجي يحتفلُ.

وكان الشاعر ابراهيم نصر الله قد كتب على غلاف المجموعة كلمة قال فيها: "إن لليومي الحميم الضائع أو على ابواب الضياع يكتب الشاعر عمر ابو الهيجاء قصائد هذا الديوان". وأضاف نصر الله "ثمة رثاء عميق لكل ما يحيط به، ولتلك الشعلة الصغيرة التي تبدو أنها آخر ما تبقى للجميع، وليس للشاعر وحده".

وبين نصر الله أن الديوان "يبدو هنا، كأنه قصيدة رثاء لكل شيء، للآخر الذي لا تكتمل الذات إلا به وللذات الباحثة في آخرها عما يدل على انها جزء أصيل من جمال هذا العالم الذي تحول إلى رهينة تراجيدية لعاصفة الزمن".

وأشار نصر الله الى أن الشاعر عمر ابو الهيجاء يذهب إلى القريب والساكن فينا، لكن الرحلة نفسها طويلة، لأن العثور على القريب هي إعادة اكتشاف له، ولم يكن الاكتشاف إلا مغامرة ولعبة خطرة نلعبها مع النفس، لكن الشعر كان دائما قادرا على الاقتراب من هذه المناطق الواضحة الغامضة وعبورها، حيث لا شيء على الجانب الآخر إلا نحن!

ويضيف نصرالله: من (ذكرى الخسارات) و(أخطاء المدائح) إلى( صداقة الأحلام) يمتدّ ذلك الخيط السريّ بين القصائد، حتى لتبدو كل كلمة فيها كأنها تلويحة وداع لغائب لا يغيب وحاضر يدرك محنة وجوده فنؤجل سؤال رحيله بحبنا الفائض له.

يذكر أن عمر ابو الهيجاء قد صدرت له جملة من المجموعات الشعرية:

"خيول الدم" 1989 دار ابن رشد- عمان
"اصابع التراب" 1992 دار قدسية للنشر- اربد.
"معاقل الضوء" 1995 دار الينابيع للنشر- عمان
"أقل مما أقول" 1997 دار الينابيع للنشر- عمان نشر بدعم من وزارة الثقافة
"قنص متواصل" 2000 دار الكرمل للنشر- عمان، نشر بدعم من أمانة عمان الكبرى،
"يدك المعنى ويداي السؤال" 2001 دار الينابيع للنشر- عمان، نشر بدعم من وزارة الثقافة،
"شجر اصطفاه الطير" 2004 منشورات امانة عمان الكبرى
"أمشي ويتبعني الكلام" مختارات شعرية 2007 منشورات امانة عمان الكبرى،

وله العديد من الكتب المشتركة مع آخرين
وله قيد الطبع: حوارات في الفكر والثقافة ورواية بعنوان "رائحة العتمة".


05 يوليو 2009

توجعات المنفي


توجعات المنفيّ

عمر ابو الهيجاء

1

تقول أُمي،

منذُ أكثر من هزيمةْ،

وأنت تخرج

من سهول الغيبِ

نحو الروح

ممتشقاً تراتيل المدينةْ،

زهرةً

حجراً

وشكلاً للمدى والأجنحةْ،

تقول أُمي،

منذ أكثر من هزيمةْ،

وأنت تولدُ في ضباب الريحِ

متكئاً على لغة توسدها الأماني الصادحةْ،

يا أيُّها المنفيُّ منذ البحر.. قاومْ

لا تنتظر أحداً

فتلك مرارة الأشياء في عينيكَ

تأخذ شهوة الموتى الى كل البراري،

ثم تقرأُ في دياجي الموتِ

سرَّ الفاتحةْ.


2


قليلاً أرح يا صديقي الجسدْ،

وخضب يديكَ فضاءً جديدا

فهذي الأصابعُ ترنو

إلى واحة القلب حتى تعشَّب ورداً

بدا أخضرا،

قليلاً أرح ظلّنا فوق درب الندامى

وفكَّ انتسابَ الزمانِ لهذا الزردْ

لألهث خلف البراري

أنادم روحي

أشق الرحيل فضاء

ودربا،

وأطلقُ كل الذي اشتهيه

وألهث نحو إمتداد الفصولِ

التي تصعد الآن نحوي

ونحو الزندْ

فقلبي طليق

وما من أحدْ.


3


أُغادر قلبي إليكَ

فتلبسني غيمةٌ

أمدُّ يديَّ

فتلقي إليَّ يديكَ

وأطفو إلى قارعات الحمامْ

فيرحل تحت اغترابي

قميص الزحامْ

وأصعد في غابة الظلِّ

أفرد غيم انتمائي

وأمشي كحلمي على ساعديكَ وأعرف أن الطريقَ

إلى قلب أمي

منازل شوكٍ

علامة موتٍ

وأعرف أن انبثاقي

إلى صدر دربي

علامةُ وقتْ.


4


إيهِ

أبحث عن قمر تعبره أغاني،

دمٌ كنعاني،

أُوقظ فيه نشيدي المتعب

وأرقب فيه تفاصيل الريحْ،

أُقسم لو شرّقت إلى ادراج الموج به

لأنزاح إلى قلب جريحْ،

كي ينفض غبار الرحلة والموت الهادىء

أقسم لو غرّبت إلى أسرار السفح به

لأنزاح إلى صدري الحاني،

دمٌ كنعاني،

يحتشد الرعد على قدميه،

يدخل عتم شوارعنا،

يوقد شعلة وجه قاني،

ويسلُّ الرقم المتخم في كفيه،

كي يسرح في طقس الأعراسْ،

هذا دمٌ كنعاني،

يهرب من ظلي حين أنامْ،

وحين أُراهن أن منامي يوصلني للوطن الغالي،

هذا دم يعتسل على شفتي،

ويقارع سيفا لا يوصله إلى تابوت الأرضْ،

هذا دمٌ لا يهدأ فيه الموالْ،

وفيه صباح النبضْ،

هذا دم كنعاني،

يحلم بقطوف العنب الداني،

من صيّحات الخيّالْ.


5


شمسٌ لنا،

للأرض إذ تغصُّ في قوالب الأحزانْ،

لإنتفاضة الدم الفلسطيني،

وللوقت الملفع بالجراحْ،

للدمعة الحيرى على ترشيحة الأجفانْ،

وشمسٌ للنهارْ،

وإذا احترفنا خطى القصيدة بدايةًً،

نمشي إلى حقل الخيامْ،

ونعدُّ للجسد الفريد غمامةًً ونقيم للوطن المكانْ،

وإذا تأرجح في هواك النبضُ،

نعطيك جسماً

سلماً

للعابرين الأرض من زفر الزمانْ.


6


ستأتين من فرح

وأعزف وحدي،

ويرقص فيّ البعيدْ،

تعالي/

وضمي اشتعالي،

إذا الصحب يوما تداعوّ،

ونزَّ دمي في اكتمال النشيدْ،

تعالي/

وفكّي اشتهائي،

فتلك الحرائق تبدأ مني على سحبٍ من جليدْ.


7


في السِّجنِ المكتظِّ

القضبان

يتدحرج إثنانْ

ظلي..

وأنا


8


قل لي كيفَ نبضُ الرملِ هذا الوقتُ،

دون أشرعة إلى هذا العراء؟

قُلْ لي كيف تخرج من ثياب الحلم

امرأة وهذا الليل سِترُ الصمت

يمضي في الفضاء؟

قُلْ لي كيف تصعد من شفاه الموت

أشجارٌ

وتمضي

للسماء؟


9


على غير عادته

قالَ الشاعر: نعمْ

ولمّا آفاق

مات..

وبفمه .. لا


* اللوحة من رسم الفنان الفلسطيني الراحل اسماعيل شموط

04 يوليو 2009

عمر ابو الهيجاء في سطور


عمر ابو الهيجاء

بقلم: د سناء الشعلان*

الشاعر عمر أبو الهيجاء، رقيق دمث قادم من زمن الحرف الساحر والأسطورة المتحققة، الكلّ يعرفه، والجميع لا يعرفه، فمن له أن يعرف حقيقةَ شاعر يطارد غيمة، ويراود فكرة، ويصاحب كلمة، ويبحث عن لحظة، ويتخفّى خلف مهنةِ السلطةِ الرابعةِ، فيعمل صحفياً، ويغلق بمكر لذيذ على موهبته الوارفة الروح.


هو ربيبُ الصحافة ،وابنها البارُ اللامع المشهور، ولكنه يملكُ حياءً دافئاً يجعله لا يتكلّم إلا لماماً عن نفسه، فيكون من الصّعب أن يطلعنا على صفحات من حياته إلا بمقدار ما تحمله السطور البخيلة في حقّه، وفي سفره نقرأ أنّه:

شاعرٌ وصحفي اردني يحمل شهادة المحاسبة منذ عام 1982.

عمل سابقا سكرتيراً تنفيذياً لرابطة الكتاب الأردنيين لمدة ست سنوات.

ويعمل الآن محرراً ثقافياً في جريدة الدستور الأردنية.

وهوعضو نشيطٌ حاضرٌ ملبٍّ في:

* رابطة الكتاب الأردنيين.

* الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.

* فرقة مسرح الفن الأردنية.

* الهيئة الإدارية لفرع رابطة الكتاب الأردنيين في إربد لأكثر من دورة سابقة.

* نقابة الصحفيين الأردنيين.

* اتحاد كتاب الإنترنت العرب.



ورحلة موهبته، وسرى مشاعره قد تمخّضت عن:

ديوان "خيول الدم 1989 ،

وديوان "أصابع التراب 1992 ،

وديوان"معاقل الضوء 1995

وديوان "أقل مما أقول 1997 ،

وديوان "قنص متواصل 2000،

وديوان"يدك المعنى ويداي السؤال 2001 ،

وديوان"شجر اصطفاه الطير 2004 ،

ومختارات شعرية بعنوان(أمشي ويتبعني الكلام) 2007.

وديوان "على مهلك أيها الليل"، 2009


قصائده من النوع المتمرد الراحل إلى كلّ صوب، ولذلك ما وجد بُداً من أن يطوف معها ليشارك في العديد من الأمسيات الشعرية محلياً وعربياً مثل: مهرجان جرش لأكثر من مرة ومهرجان المربد لأكثر من دورة، وغيرهما من المهرجانات الثقافية والإبداعية محلياً وعربياً. وله خطة لذيذة تتجلّى في إصدارات قيد الطبع، وهي: حوارات في الفكر والثقافة، ورواية بعنوان" ليل العتمة".



حظي الكثير قبلنا بمداعبة موهبته، فبث التلفزيون الأردني فيلماً عن تجربته الشعرية في عام 2004 في فقرة "بوح الذاكرة" وكان عنوان الفيلم(على غير عادته قال الشاعر: نعم). كما كتب الكثير من الدارسين والباحثين عن تجربته الإبداعية، وترجمت العديد من قصائده إلى أكثر من لغة أجنبية.



* القيت في أمسية شعرية في عمان في تموز 2008

03 يوليو 2009

قراءات نقدية حول اعمال الشاعر


سلطة الواقع في تحولات الأنا / الضوء


أسامة غانم *



يدمج عمر ابو الهيجاء في (أمشي ويتبعني الكلام) – مختارات شعرية مستلة من سبعة دواوين، صدرت ما بين 1989 – 2004، والمختارات صدرت عام 2007 – ما بين سلطات الواقع ومرجعياته: التاريخية – السوسيولوجية – الثقافية، مضافاً اليها المنفى بإشكالاته وتأثيراته، ومتغيراته، في سلطات الشخصي من حيث الرؤية الذاتية، وعمق التخييل، والتراكم المعرفي، الخاضعة لمدى الاستيعاب والتفاعل بمرجعية الواقع وسلطاته، وعبر هذه العلاقة الجدلية، الواقع الخارج – الظاهر في الشخصي/ الداخل – الباطن، تتناسل بنيات هيلينية، منتجة شعرية التشكيل للمعنى وجمالية الصورة، المرتبطة بالايحاء والاشارة، والشفارت السرية، ولكنه يظل خاضعاً لاسرار يومياته الشخصية التي تكون مع الاخر متداخلة متقاطعة، مختفية في تحولاته غير المرئية.


ويتفرد ابو الهيجاء في مختاراته التي اختيرت بعناية فائقة في التجربة الشعرية،وبذائقة عالية الإحساس، ورؤية مكثفة في العوالم، بتجذر الأنا، لتكون المهيمنة والاساسية في قصائده جميعها تقريباً، يعود ذلك الى انه لديه قضية، تتعايش معه، يجتاحه، تنخر فيّه، تتأكله، تمور داخله، اضافة الى اعلانه المجاني بانه موجود داخل العالم وداخل ذاته، وان له صوتاً مسموعاً، وايمانه العميق بان روح الكون هي روح الشعر او الشاعر سيان [ انا موج فوضوي / حملتني سهواً رائحة الدم الى الكتابة] بمعنى لولا القضية لما كتب الشعر، بل يجعل من الأنا ملحقاً بكل الاضواء [ نام الضوء فوق جبيني / ولم / انم] بهذا تتشكل أنا غير محددة ، متشظية في الاتجاهات الاربعة، مراقبة ما يجري حولها، مكتسبة القوة والسلطان، لتكون مرجعية وذاتية في آن واحد، ومحمّلة الكلمة الاصيلة التجربة الفردية في المواجهة، بكل معاناتها ومراراتها وتقلباتها [هذا دم لاينكسر / من منكم حاول كسر جوانحه / من منكم فك لوائحه] تأكيداً على تحدي الانسان المقهور لهذا الزمن الصعب وللقدر، وانتصاره على النسيان بالتاريخ والذاكرة اليومية المتواجدة في بطون الكتب ورحم الطبيعة، رغم ان الانسان كائن الزمان وكائن الموت، أي ان الانسان هو الكائن الخرافي مدوّخ الموت من الحياة، وما الموت عند ابو الهيجاء الا حالة سفر، كما في سفر ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الكبير، الذي اغتيل في الغربة – المنفى، في قصيدته ( اصابع فوق الزند) الموجعة جداً، المؤلمة حد النخاع، النازفة بصمت [أي المراكب سوف تفضي للبلاد / وأي جرح سوف يوصلنا الى الحقل السَفرْ]، ونتساءل هل لازالت ياحنظلة لم تتعب من السفر؟ وهل لازلت يا حنظلة تحمل صليبك في داخلك اينما تذهب كما قلت عن نفسك؟ هل لازلت ياحنظلة مرافئ للعشق؟.


يترك هذا السفر بعده: الاوراق، الصور، الرسوم، الذكريات، هكذا يشتغل ابو الهيجاء على مفردة الموت، ليجعلها تصطف خلف الحياة بكل الوانها، راضعة منها صمغة التجذر والانبعاث من بطون الرماد كالعنقاء [ يا ابي / ستعرف بعد موسم او موسمين / ان موتنا مباح / قليلاً / انهض / من / حدود / الموت] هذه الصورة الشعرية المليئة بالمعاني الدلالية، ترتكز على سوسيولوجيا النص المشعرة للشاعر، ومرجعيته اللحظة – الشخصية، وان الاخر المختبئ ( = المسافر) يبقى ( ضوءٌ مطمورٌ ووحيداً) كما يقول الشاعر المكسيكي خامي سابينيس.


ومهما يكن العمل الشعري غامضاً، يستطيع المرء ان ((يجعله ذا دلالة : بان يعده اولاً دليلاً كتجربة ومن ثم يحدد المرء معنى تلك التجربة)) – ستانلي فيش – وعليه ان بعض الجمل لانستطيع ان نفهم دلالتها الاشارية او الرمزية الا في نطاق القصيدة، وربما في نطاق المختارات كلها، وحين تصلنا دلالتها تصلنا لا كمعنى مكتمل بل كإيحاء في صورة رمزية [كوني الخيل/ التي لاتمل الركض / كوني ما تشائين / لاجعل مني/ معبراً / تدخلين منه/ وتشعلين قامة الريح بالقناديل] او في صورة مغرقة في الفنتازيا [السهل تحت ابطي أحمله].


لن نتفاجاً بموقف عمر ابو الهيجاء تجاه المرأة / الانثى، عندما يأتي متناقضاً، مزاجياً، في الرؤية الشعرية، ففي نص تكون نداً وقرينة للضوء/ الأنا [ لم جاء طيفها/ لم أنم]، بل يجعلها الضوء ذاته [انثى الضوء]، وفي نص آخر يقف على بوابات العالم باحث عنها [فأسأل كل اللغات عن امرأة]، ومن هذه الابيات نعثر على تحولاته والازاحة في لغته الشعرية ومجازاته الرمزية التي يمنحها اياها للمرأة وللقصيدة، وفي بادئ الامر يختلط علينا الامر بينهما ونلاقي صعوبة في التمييز بينهما ايضاً، ولكن عندما نقوم بقراءة متأنية للنص نستطيع ان نفكك ما قرأناه واكتشاف المعنى خارج النص وداخله، فالقصيدة عند ابو الهيجاء هي القضية وبالعكس، يتوهج بها وتتوهج به، علاقة صوفية حميمة بينهما، كالعاشق والمعشوق، والمرأة تصبح متداخلة مع القضية، ولكنها غير ظاهرة، ومحالة اليها [كثيرُ النساء انا/ لم تعشقنِّ/ سوى القصيدة].


يثير عنوان المختارات (أمشي ويتبعني الكلام) السؤال التالي : من هو التابع؟ ومن هو المتبوع؟ هنا لايستطيع القارئ / الناقد الاجابة، الا بعد القيام بقراءة تأويلية جمالية للقصائد، لاستخلاص المعنى المتعدد، لاننا نستطيع الجمع بين خصوصية المعنى وسمة التأويل السوسيولوجية، وذلك لمشاركة المعنى بين الشاعر والقارئ معاً، فمن الذي يمشي؟ ومن الذي يتبعه؟، انها علاقة خارج الجدلية، علاقة تحوي ولا تحتوى، علاقة متشظية لكشف الاشياء، وتسليط الاضواء على الاماكن المظلمة، علاقة لاتخضع للقوانين الموضوعية بل للقوانين الذاتية، أي الذات، لانها هي التي تصنع قواعد لعبة اللغة الشعرية، وما القارئ / الناقد الا متلقي ومؤول ومكتشف لما يجري داخل اللعبة، فيكون في هذه الحالة الجميع تابع للأنا، في تشكيل الرؤية الجماعية للمعنى: الفعل – امشي ، والاسم – الكلام، ضمن المرجعية الواقعية الشخصية.


وتأتي قصيدة (للريح اوتار قصيدة تشبهني)، مكثفة محورها المتفجر الأنا التي تقطر الماً، ولكن احلامها (= الرؤيا) تتناثر كحبات الرمان الفلسطيني، فينا، فيهم، فلا توجد مسافات محدودة، صورة فنية جمالية احترافية قل نظيرها:
[رأسي رمانة الرؤيا / وقلبي قش الطريق/ فليمر الهواء من بين أضلاعي/ مرسلاً/ شهقات الراحلين/ انا شاعر تهجى شغب الطرقات طويلاً/ ولم تحتف بي اوراق الروح/ ولا أنثى القيامات/ ولم يحتف بي حلم توالد/ لحظة انتشار شاعر تمرغ في حقل / الكلمات].


انها جامعة لكل ما اراد ان يقوله ابو الهيجاء في دواوينه السبعة وبواباته السبع، وايامه السبعة، وسماواته السبع، وبحاره السبع… وولادته في الشهر السابع بين اشجار الزيتون السبع في عين الحوض النائمة في حضن حيفا.
ولنلاحظ انه في قلب المعاناة، او في خضم الرؤيا، تشتبك الأنا بالكلمات عنده، ففي البدء كان الكلمة، وكان الدخول في التجربة، لكي تفتح بيوت الشعر، وليرفع راياته ما بين الحرف والحرف، وليقرأ في كتاب العشق.

* ناقد وكاتب عراقي .

حوار - القدس العربي

حوار مع الشاعر الاردني عمر ابو الهيجاء
كتبه يحيى القيسي
ونشر في جريدة القدس العربي بتاريخ 27/8/2008

المبدع الحقيقي لسان المتعبين في الأرض والمعبر عن آمال أمته

يعد الشاعر الأردني عمر أبو الهيجاء واحدا من التجارب الأردنية التي بدأت في الثمانينات وترسخت في التسعينيات ضمن خصوصية واضحة،فقد اشتغل على قصيدته بدأب كبير، وأخلص لنصه الشعري ،وتواصل عطاؤه في إصدار الدواوين ،وأولها خيول الدم 1989 ، ثم أصابع التراب 1992 ، معاقل الضوء 1995، اقل مما أقول 1997، قنص متواصل 2000، يدك المعنى ويداي السؤال 2001 ، شجر اصطفاه الطير 2004 ،وأخيرا أصدر مختارات شعرية من دواوينه السابقة جمعها في كتاب واحد اسماه أمشي ويتبعني الكلام وهو من منشورات أمانة عمان الكبرى.

عمل أبو الهيجاء في رابطة الكتاب الأردنيين سكرتيرا إداريا لست سنوات،ثم انتقل للعمل الصحافي الثقافي ، وهو اليوم في جريدة الدستور الأردنية محررا وكاتبا، عضو رابطة الكتاب ونقابة الصحفيين الأردنيين،و هو مشارك نشط في المهرجانات الشعرية والأمسيات. يقول الناقد والشاعر د. راشد عيسى عن مختارات ابو الهيجاء نصوص عمر تخلو من الخطابية والمباشرة، وتصعد نحو التجريد بصفته أليق الأساليب المخيالية لقصيدة النثر،وهو تجريد لصيق بالمعمار السوريالي الذي تصبح فيه اللغة نظاما رمزيا وإرشاديا مستندا إلى الانزياح الدلالي اللغوي .

هنا حوار حول تجربته الشعرية والصحفية والتقاطعات ما بينهما:
* ما الذي ترى انك أنجزته من المغايرة والجدة في مجال الشعر منذ خيول الدم إلى ديوانك السابع شجر اصطفاه الطير على اللغة والأسلوب مقارنة بالمشهد الشعري المحلي والعربي من حولك؟

- منذ صدور أول عمل شعري لي خيول الدم وقصائد هذه المجموعة معظمها كتب بعد منتصف السعبينيات وكما تعلم هذه المرحلة وما بعدها إلى أواخر الثمانينيات كانت مضطربة سادتها حروب وانتفاضات كثيرة في فلسطين وحرب بيروت، كل ذلك كان له وخز كبير في داخلي المسكون بالوجع، فأنا من جيل الانكسارات والهزائم من 67 إلى 73 إلى 82 وصولا لحرب الخليج الأولي والثانية وسقوط بغداد أندلس العرب الثانية، فكانت خيول دمي تركض على مساحة الجرح في الجسد المتشظي.

القصيدة أخذت تقودني إلى جوانية الهم الإنساني المعيشي، إلى التفاصيل الدقيقة في خارطة الألم والتشرد والنفيّ والرحيل وصولا إلى هضبات الحلم الأسمى الوطن، جسدي أصبح متعدد الثقوب، ثقوب الزمن والصواريخ التي اخترقت ألواح الزينكو والبيوت الطينية في المخيمات حين كانت تطلقها إسرائيل ليلا على اربد شمال الأردن، كل هذه المشهديّات العصيبة لها وقعها على مخيلتي منذ كنت طفلا، حملتني وحملتها في صندوق رأسي الطافح بذاكرة الموت ورائحة الدم.

خيول الدم اطل بمجموعة من القصائد أشبه بالقنابل الموقوتة، راسمة توجعات الإنسان المنفي على أطراف الأرض، قصائد تقرأ الدم المتناثر في الطرقات، تقرأ لوحة الشهداء وأطفال الحجارة وتقرأ تهاليل أمي في وداع الفرح على شفاه الطفولة المخنوقة بدخان الدبابات وبساطير الفاشست.

بعد ذلك أصدرت مجموعتي الشعرية أصابع التراب التي جاءت مكملة للمجموعة الأولى، هاتان المجموعتان كانت اللغة والأسلوب والتقنية اقرب إلى الحدث فيهما، لغة مبسطة وشفافة غير أنها بعيدة كل البعد عن المباشرة أو التقريرية، ثم توالت إصداراتي الشعرية، حاولت في كل مجموعة أن لا أكرر نفسي وأقدم ما هو جديد على صعيد القصيدة وكل مجموعة كانت تختلف عن الأخرى سواء على صعيد اللغة او الشكل او المضمون برؤى مغايرة والبحث تشكيلات اللغة وتراكيبها والعلاقات فيما بينها من الدلالة والمعنى، اعتقد أنني استطعت أن أجد لي مكانا على خارطة الشعر محليا وعربيا وصوتا خاصا يميزني عن غيري من الشعراء.

لقد بدأت مع قصيدة التفعيلة ثم انطلقت إلى فضاء آخر للقصيدة ،فضاء أكثر اتساعا للتحليق ليس عجزا مني في متابعة قصيدة التفعيلة المموسقة وإنما البحث في المزج ما بين الشعر والنثر وصولا لنص كوني لا يخلو من شعرية عالية من حيث تكثيف اللغة وإيجاد إيقاع يتماشى مع عجلة الحياة، وأرى أن الشعر ليس فقط الوزن وإن كان هو من أهم عناصر القصيدة، فإلى جانب الوزن هناك عناصر مهمة كثير من الشعراء يهملها مثل الانزياح والتكثيف والبناء والتراكيب الجديد بين المفردات والدهشة والمفارقة وغير ذلك، إذا القصيدة إن تخلت عن هذه العناصر واعتمدت فقط على الوزن أعتقد تكون قد أصيبت بالغيبوبة والموات لأنها فقدت روح الشعر، أنا هكذا أنظر إلى القصيدة، والقصيدة التي لا تستفزني ولا تهزني من الداخل أعتبرها قصيدة هزيلة ومشلولة لا تستطيع الوقوف أو مغادرة فراشها لأنها خلقت مريضة.

* لاحظت في قصائدك أنك تركز كثيرا على الجسد الجريح وأنينه وأنه يحضر كثيرا مفردات وصورا، فهل هذا الأمر يدخل في سياق التوجه الشعري والروائي للاحتفاء بالجسد وهواجسه أم هو أمر ذاتي خالص؟

- الجسد في أعمالي الشعرية يأخذ دلالات ومعان كثيرة، ويظهر جليّا في قصائدي المطوّلة فتراه جسدا ممزقا ينزّ دما سيّالا على عتبات الحياة المريضة بآلة الحرب المدمرة، ألا ترى معي أن الجسد العربي ممزق من المحيط إلى الخليج، ودائم الأنين والصراخ، فعلى الشاعر الحقيقي أن يتحسس ويمعن بهذا الجسد ليكون قريبا من أنينه وسقطاته المتتالية.

لهذا تجد تركيزي المتواصل على جسد الأمة أحاوره وأتغلغل في ثناياه، فأنا جزء من هذا الجسد الجريح الذي مرتّ سنوات جمر طوال عليه ولم يتعافى ولست الوحيد من بين الشعراء الذين أصيبوا بلعنة الجسد الجريح، فجسدي وجسدك وأجسادنا لم تزل تئن من الطعنات المسمومة بفعل انكساراتنا الداخلية والخارجية.

من ناحية أخرى هناك الجسد الذي يحتفى به كجسد الشهداء الذين يعلموننا معنى العشق.. عشق الوطن والتضحية والفداء، لم يكن احتفائي بالجسد مجانيا وإن كنت أيضا كتبت بفيض عن جسد المرأة،حاولت في قصائدي الكشف مفردات هذا الجسد ومكنوناتها لأرسمها بطريقة جمالية أخاذة تقرأ عالم المرأة الخاص، بلغة تدغدغ مشاعرها وتبحر في جوانيتها الفياضة والمشتعلة بنار الحرقة، لأن المرأة برأيي حرارة دائمة ومسبحة كل العاشقين، هذا ما أراه، إذن ليس الأمر ذاتيا وإن كان كذلك فأجمل الأشعار هي التي عبرت عن الذات وانطلقت إلى الذات الجمعية بكل تفاصيلها الإنسانية والوجودية، فمعظم الشعر في سياقاته المتعددة لا يخلو من الاحتفاء بإنسانية وكيانية هذا الجسد بكافة تفاصيله وتضاريسه وكذلك الرواية احتفت بالجسد بطرق مختلفة، فالجسد له قراءات متعددة وهو لا يحتمل قراءة واحدة، ولا يحتمل أيضا الابتذال في التعبير عنه لأنه خلق ساميا ويبقى كذلك.

* ثمة انشغال أيضا بثيمة الكتابة نفسها والشعر تحديدا، فهل أنت قلق تجاه كتابة الشعر والإنثيالات التي قد تأتي ولا تأتي؟

- القصيدة تأتي وحدها، قد تأتي وأنت في داخل الحافلة، وقد تأتي وأنت في تسير في الشارع أو في أي مكان، وقد تكون نائما فتهمس لك أنّ استيقظ ، هكذا تعيش معك وتجعلك دائم القلق، فأنا لا أقتحم قصيدتي هي التي تقتحمني فتأخذني إلى جناحيها وفضاءاتها الرحبة وتحلق بي في سماوات كثيرة.

من هنا أصدقك القول إذا قلت لك بأنني أعيش حالة قلق دائم، فأنا قلق على الحياة، قلق على الوجود.. قلق على حروفي النازفة وخيالاتي ..قلق عليّ قلق على امرأة قد تأتي أو لا تأتي.. قلق على حبري أن يجفّ وخائف على أصابعي أن تصاب بالترهل والضعف والشلل.. إنني قلق على كل شيء في هذا الكون والوجود… فقلقي حق مشروع، لكنني لست قلقا على قصيدتي إن جاءت أم لم تجيء.. لأنها حتما ستأتي، والقصيدة لا تستأذن شاعرها في الحضور إليه، فقلب الشاعر حدائق تفيض بالجمال والخضرة، المهم كل كاتب أو مبدع يعيش قلقه الذي لا ينفصل كينونة الحياة وتفاصيلها، لأن المبدع الحقيقي هو لسان حال أمته والمعبر عن تطلعاتها وأمالها وأحزانها وأفراحها.. إنه لسان المتعبين في هذه الأرض.

* كونك أحد شعراء الأطراف أو المحافظات أساسا، فهل كان لرحلتك إلى العاصمة وعملك المتواصل فيها دور في تطوير تجربتك أو إعاقتها؟

- اعتقد أن تغيير المكان لأي مبدع ضروري لأنه يكون له الأثر الكبير على نصه الإبداعي، فأنا كائن مهووس بالمكان، ورحلتي إلى عمان والعمل فيها لا أنكر بأنها افادتني كثيرا، فقد أصبحت قريبا من الحراك الثقافي والنشاطات والمهرجانات الثقافية المحلية والعربية، تعرفت إلى أصدقاء لهم قاماتهم الإبداعية، فقصيدتي أيضا أخذت بالاحتكاك بكل ما هو جميل ومبدع، أي أنها تطورت وأصبح لها حضورها محليا وعربيا وترجمت بعض قصائدي الى غير لغة، وهذا كله بفضل المتابعة والاجتهاد والاشتغال على النص دون الالتفات إلى الوراء لأنني أكتب نصي وأمضي ولا يهمني ما يقال هنا وهناك، حقيقة لقد حافظ نصي على خصوصيته وهذا ليس رأيي أنا إنه رأي الكثيرين من النقاد في الوطن العربي ، وبالمناسبة فإن القصيدة التي تستفزني أحاول أن أكتب أفضل منها ولا أقلدها أو استنسخها، والقصيدة الرديئة أيضا تستفزني لأنها رديئة.

إذن المكان له تأثيره على مسار المبدع، وأقولها بصدق التغيير الذي حدث على قصيدتي جاء خالصا من تبعيات كثيرة لأنني أنا الذي أحدث التغيير، ولعب المكان دورا لا يستهان به في التغيير ، لكن تقع مسؤولية كبرى على الشاعر والمبدع فكيف يستطيع أن يتأثر ويؤثر في المكان لينعكس ذلك على منتجه الإبداعي، لدينا شعراء في المحافظات ما زالوا يراوحون مكانهم ونصوصهم مازالت تلهث ، بمعنى لم تتطور لأنها لم تحتك بالتجارب الأخرى والبعض لم يقرأ كتابا في السنة وهذا بالطبع لا يحدث تطورا لديهم لم يطلعوا على ما هو جديد في شتى حقول المعرفة والإبداع، بمعنى مخزونهم القرائي محدود، وفي المقابل هناك شعراء من المحافظات على اتصال دائم بالعاصمة ويشاركون بالفعاليات أي ان لهم حضورهم وبالتالي انعكس ذلك على تجاربهم الإبداعية هذا الى جانب أنهم يبحثون دائما عن الجديد من شعر ورواية ومسرح وقصة الى غير ذلك ، أنت مثلا المكان أحدث نقلة نوعية في تجربتك الإبداعية بعد عودتك من تونس أنجزت عملا روائيا مهما والمكان كان بطلا مركزيا في الرواية لأنك ثقافتك اتسعت وخرجت من محليتها.

* بالمناسبة كيف تعامل النقد مع تجربتك الشعرية وهل اشتغل عليها كما ينبغي لها أم ظلمها ومر عليها مرور الكرام؟

- اعتقد أنني محظوظ جدا فمنذ صدور مجموعتي الأولى التي لاقت اهتماما نقديا لا بأس به سواء محليا أو عربيا، وتوالت الدراسات النقدية حول مجموعاتي الشعرية السبع، لكن أود أن أشير هنا إلى نقطة مهمة ألا وهي أن النقد لدينا وللأسف نقد مصالح وشللية ونقد محاباة .. نقد أسماء لا نقد نصوص، فنجد أن معظم الدراسات النقدية تكون خاضعة الى كلاشيهات جاهزة يطبقها بعض النقاد على جلّ الإبداعات سواء أكانت شعرية أم قصصية أو غير ذلك، هؤلاء النقاد الذين أعتبرهم كتبة فقط، لا يجهدون أنفسهم في القراءة.. قراءة النصوص والغوص في ثناياها، بل يعتمدون على أسماء الكتاب فهم ينقدون ويدرسون أسماء لا إبداعات،في المقابل هناك نجد نقد جاد ومتميز لا ينكر احد اسهامات بعض النقاد العرب والاردنيين امثال: إحسان عباس وفخري صالح ود. خالد الكركي وخليل الشيخ وعلي الشرع ونبيل حداد ود. ابراهيم خليل ود. راشد عيسى وعبدالله رضوان ود. محمد عبيدالله وغيرهم الكثير، وكذلك هناك أسماء عديدة في الوطن العربي لها مكانتها النقدية وإسهاماتها في شتى المحافل العربية والدولية.

المهم أن النقد في النهاية وبرأيي المتواضع لم يلحق بعد بالعملية الإبداعية ولم يواكب تطورها، علما بأن النقد إبداع على إبداع، المفروض أن يتماشى ويواكب ويلحق بالإبداع وان لا يبقى أسير مدارس وكلاشيهات جاهزة في النقد، عليه أن يقرأ الإبداعات والكتابات الجديدة بعيدا عن الأسماء والمحاباة والمصالح الشخصية ، أي بمعنى نريد نقدا نقيا معافى من كل الشبهات والترضيات.

* حدثنا عن عملك الصحفي في الجانب الثقافي وأثره على قصائدك لا سيما أن هناك مقولة يردده الكتاب بأن الصحافة مفرمة الإبداع؟

- إن مقولة أن الصحافة تقتل الابداع أو أنها كما تقول مفرمة الابداع هذا كلام مغلوط وخال عن الصحة، ولدينا العديد من الأمثلة في هذا المجال ممن عملوا في الصحافة ومارسوا الإبداع وقائمتهم تطول جدا، أعود إليك أنت المبدع والصحفي يحيي القيسي ها أنت تعمل صحافيا وما زلت تبدع وأصدرت أعمالا روائية وقصصية وغير ذلك وأنت تمارس مهنة الصحافة لم يتأثر منتجك الإبداعي، ربما يكون الأمر أكثر تعلقا بالوقت او عدم التفرغ بسبب العمل الصحفي لأنه هناك صحفي نشيط ومبدع وصحفي كسول غير مبدع فلا يجوز أن نعلق كل شيء على شماعة الصحافة ونعتبرها مقصلة المبدع.

خلال عملي بالصحافة ومنذ أكثر من عشر سنوات أصدرت أهم مجموعاتي الشعرية والتي كانت علامة مميزة في هذه التجربة وقد لمست ذلك من الكم الهائل من الدراسات النقدية، لم يكن أي تأثير سلبي للصحافة على نتاجي الأدبي، بل العكس الصحافة أمدتني بالكثير بالمعرفة والاطلاع والاحتكاك بتجارب مبدعة كثيرة، فالصحافة أيضا عمل إبداعي يتوازى مع المنتج الأدبي.